الاجتهاد تعريفه شروطه الحاجة إليه
الاجتهاد تعريفه شروطه الحاجة إليه
عرف ان منظور في كتابه لسان العرب الاجتهاد بقوله ك ( بذل الوسع في طلب الأمر ،و هو افتعال من الجهد و الطاقة ) أما اصطلاحا فقد عرف الاجتهاد بأنه: ( إعمال المؤهل عقله في أدلة معرفة الاستنباط في استخراج ما هو ألصق بمقصود الشارع فيما يعود على العباد بتحقيق مصالحهم ) فالاجتهاد إذا هو بذل الفقيه و هو العالم المجتهد ما في وسعه و كل جهده في استخراج الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية و الاجتهاد أيضا هو عملية الاستنباط للأحكام الشرعية الفرعية العملية من مصادرها المقررة كالقرآن و السنة و الاجماع و المناهج العقلية و اللغوية البيانية و من هنا نتبين أن الصراع المزعوم بين الوحي و العقل أو بين الشريعة و الحكمة أو بين الدين و العلم لا وجود له في الإسلام فالنص القرآني المصدر الأول من مصادر التشريع الإسلامي و السنة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة و السلام أمرا بإعمال العقل و بالاجتهاد حتى في النص القرآني و بذلك يكون الاجتهاد في كل عصر و مصر فريضة دينية و ضرورة اجتماعية يحتمها الواقع الإنساني المتغير كما تحتمها المحافظة على مصالح الإنسان المشروعة و المتبدلة كلما تغيرت الأعراف و تطور العلوم و المعاملات الاجتماعية و الاقتصادية للمسلمين و للعالم الإنساني الذي يعيشون فيه و قد وعى المسلمون الأوائل بضرورة إعادة الاجتهاد في نفس المسألة كلما طرأ جديد و كلما حدثت تغيرات في الواقع الإسلامي أو في الواقع الإنساني إذ المسلم ليس بمعزل عن هذا الواقع و هذا ما جعل للإمام الشافعي يكون له مذهبان مذهب قديم في العراق ثم لما استقر بعد ذلك بمصر و عاين و عايش أعرافا و واقعا مغايرا للواقع الذي كان يعيشه في العراق غيذر من اجتهاداته في الكثير من المسائل و بهذا كان له مذهبا جديدا و كتاب الأم للشافعي و هو كتاب فقه جمع بين المذهبين المذهب القديم بالعراق و المذهب الجديد بمصر و ما ذاك إلا لأن الفتاوي تتغير و تختلف أحكامها باختلاف الظروف و الأحوال .و من الأدلة القرآنية التي يستشهد بها على ضرورة الاجتهاد قوله تعالى ( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) و قال علماء التفسير و علماء علم أصول الدين بأن هذه اللآية هي دعوة من الله و حث للمسلمين على الرجوع إلى أهل العلم و المعرفة و الدراية و الاختصاص في كل المجالات لاستنباط الأحكام من مواطنها بما في ذلك استنباط الأحكام الشرعية من مصادرها المختلفة سواء كانت هذه المصادر نصية أو عقلية و من الأحاديث النبوية التي استشهد بها علماء المسلمين على ضرورة و مشروعية الاجتهاد حديث الصحابي معاذ بن جبل حين بعثه الرسول إلى اليمن و الذي أخرجه أو داود في كتاب الأقضية قال الرسول لمعاذ: كيف تقضي إذا عرض لك قضاء ؟ قال أقضي بكتاب الله .قال فإن لم تجد في كتاب الله قال فبسنة رسول الله .قال فإن لم تجد في سنة رسول الله و لا في كتاب الله .قال أجتهد رأيي و لا آلو .فضرب رسول الله صلى الله عليه و سلم صدره و قال: الحمد لله الذي وفّق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله . ) و من الأحاديث التي استشهد بها العلماء على مشروعية الاجتهاد أيضا حديث رواه البخاري في صحيحه كتاب الاعتصام باب أجر الحاكم إذا أصاب جاء فيه : ( إذا حكم الحاكم فأصاب فله أجران ، و إذا أخطأ فله أجر واحد ) و في رواية أخرى : ( من اجتهد و أصاب فله أجران ، و من اجتهد فأحطأ فله أجر واحد ) كما استشهدوا بحديث رواه أبو داود في سننه كناب الطهارة باب التيمم يجد الماء ما يصلي في الوقت جاء فيه ( خرج رجلان في سفر فحضرت الصلاة و ليس معهما ماء فتيمما صعيدا طيبا ن ثم وجدوا الماء في وقت فأعاد أحدهما الصلاة و الوضوء و لم يعد الآخر ، ثم أتيا على رسول الله فذكرا ذلك فقال للذي لم يعد : أصبت السنة و أجزأتك صلاتك و قال للذي توضأ و أعاد : لك الأجر مرّتين ) و من كل هذه الأحاديث نتبين أن الرسول محمد صلى الله عليه و سلم حثّ أصحابه على الاجتهاد في غيابه كلما اقتضت الحاجة إلى ذلك.اشترط العلماء شروطا في المتصدر لعملية الاجتهاد و لعل أهم هذه الشروط العلم بالقرآن و علومه و السنة و علومها و الإجماع و أسباب النزول و الناسخ و المنسوخ و العلم بدلالة النصوص الشرعية في العموم و الخصوص و المجمل و المفصذل و المقيّد و المطلق و المحكم و المتشابه و الإثبات و النفي و لن يصل المجتهد إلى هذا إلا بحذق اللغة العربية و علومها من نحو و صرف و علم بلاغة ، إن الاجتهاد في النص الشرعي يقتضى من المجتهد تمثل دلالاته اللغوية و الشرعية فبهذا التمثل يتمكن المجتهد من الوصول إلى استنباط الأحكام الشرعية إن منهج الاستنباط يتطلب من المجتهد البدء بالنظر في الدلالة اللغوية لألفاظ النص في بعدها المعجمي و السياقي و يراد بسياق الخطاب أسلوبه و مجراه فالسياق هو المحيط اللساني الذي أنتجت فيه العبارة والخطاب و من الضروري عند النظر في الخطاب القرآني و الخطاب الشرعي عموما النظر إلى سوابقه و لواحقه إذ لا يصح أن يقتصر نظر المجتهد على بعض أجزاء النص دون بعض يقول الشاطبي في كتابه الموافقات الجزء3 صفحة 413 ( فلا محيص للمتفهّم عن ردّ آخر الكلام على أوّله ،و أوّله على آخره فإن فرّق النظر في أجزائه فلا يتوصّل إلى مراده ) ثم من الضروري أيضا على الناظر في الخطاب الشرعي قرآنا أو سنة النظر فيه من حيث الإفراد و التركيب و الوضوح و الخفاء. و الملاحظة التي نوردها هنا أن الإمام أبو حامد الغزالي ( ولد 450هـ /1058م- توفي 505هـ /1111م ) لم يشترط في المجتهد معرفة جميع آيات القرآن الكريم و إنما اشترط معرفة الآيات التشريعية و هي حسبه نحو خمسمائة آية و قال غيره مائة و عشرون آية و هناك قول ثالث أن جميع آيات القرآن الكريم و هي 6236 آية و هذه الخمسمائة آية التشريعية لم يشترط الغزالي حفظها عن ظهر قلب بل اشترط معرفة مواضعها في القرآن الكريم بحيث وقت الحاجة يمكن للمجتهد الرجوع إليها بسهولة و يسر في كتاب الله و مع هذا على المجتهد معرفة بعلوم القرآن من محكم و متشابه و عام و خاص و مجمل و مفسر و ناسخ و منسوخ .و إذا اشترط علماء الأصول في المجتهد المعرفة بأفعال الرسول محمد صلى الله عليه و سلم بحسب وقوعها أولا بأول ، إلا أن ما تميذز به الغزالي عن علماء الأصول في عصره أو من جاؤوا قبله باشتراط معرفة المجتهد بالأحاديث المتصلة بالأحكام فقط و معرفة مواقع أبوابها في المصنفات التي تعنى بالحديث النبوي حتى إذا أراد مراجعتها تمكن و سهل عليه ذلك وقت الحاجة و لم يشترط الإمام الغزالي في المجتهد المعرفة الدقيقة بعلم الجرح و التعديل كما لم يشترط أن يكون المجتهد حافظا لسندات و لمتون الأحاديث و رواتها عن ظهر قلب كما اشترط معاصروه و من سبقهم من العلماء .و لسائل أن يسأل ما حاجة المسلمين إلى الاجتهاد و إجابة عن هذا السؤال نقول إن الشريعة الإسلامية هي شريعة حيّة و مرنة بمقدورها مواكبة المستجدات على كل المستويات سواء كانت علمية أو اجتماعية أو اقتصادية أو بيئية فالشريعة الإسلامية بمقدورها الاستجابة لكل جديد و التفاعل أيضا مع كل مستجد فهذا ما يجعلنا نقول إن الاجتهاد هو من أهم الآليات التي عبرها تتجسد عمليا مرونة الشيعة الإسلامية و بالاجتهاد تتفاعل الشريعة الإسلامية مع الواقع الإنساني المتغير و المتحول و به تستجيب لحاجيات المسلم و مصالحه المشروعة و المتجددة و التي لا عهد للسابقين بها و الاجتهاد لا يعنى بحال من الأحوال إلغاء النص قرآنا و سنة و إنما هو إعمال للنص الديني في كل الطوارئ و المستجدات إذ لا يمكن أن تترك هذه الوقائع و المستجدات دون أحكام تشريعية يقول الإمام الشافعي المتوفي في 240هـ في كتابه الرسالة صفحة 477 ( كل ما نزل بمسلم ففيه حكم لازم ) .التطور و التجديد سنة من سنن الحياة و وظيفة تنظيم الحياة الاجتماعية العلمية و الاقتصادية و البيئية عبر التشريعات ضرورية فالتطور العلمى اليوم طرح على الفقهاء المسلمين قضايا لا عهد لأسلافهم بها و من هده القضايا نذكر على سبيل الذكر لا الحصر قضية الاستنساخ بشقيه الحيواني و البشري و التلقيح الصناعي للقضاء على العقم و إجارة الرحم و زرع الأعضاء من حي لنفسه أو من حي لحي أو من ميت لحي أضف إلى كل هذا بنوك المني و الحليب و أحكام الانتفاع بها و استخدام الأجنّة في زراعة الأعضاء و رفع أجهزة الانعاش عن ميت الدماغ و هل يجوز القتل الرحيم أي قتل المريض الذي اشتد به الألم و يئس الأطباء من شفائه و في مجال المعاملات ظهرت أنواع من العقود لا عهد للسابقين بها مثل التأمين التعاوني و التأمين التجاري و ما حكم ربط الفوائد و الديون بمستوى انخفاض أو ارتفاع العملات و الأسعار و ما تحقيق علة الربا و هل تكون هي مجرد رفع الظلم كما ورد ذلك في قوله تعالى في الآيات 278/279 من سورة البقرة حيث جاء في نهاية الآيات : ( فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون و لا تظلمون ) ؟ و ما أحكام الحقوق الفكرية و الملكية الصناعية ، إن جدة كل هذه القضايا و العقود و التعاملات المالية و الاقتصادية يجعل المسلمين اليوم في حاجة إلى الاجتهاد أكثر من أي عصر آخر و بما أن المستجدات و القضايا الحديثة معقدة لارتباطها بمجالات متعددة و اختصاصات كثيرة و دقيقة أصبح اليوم الاجتهاد الجماعي ضرورة بحيث لا يمكن الإجابة عن هذه القضايا دون الاستماع و مشاركة أهل كل اختصاص مع الفقيه المجتهد لاستخراج أحكام كل قضية من القضايا المستجدة و من أسباب فوضى الفتوى و اختلاف المجتهدين المسلمين في المسألة الواحدة إلا لأن فتاويهم فردية شخصية لم يستعينوا و لم يستشيروا قبل إصدارها أهل الخبرة و الاختصاص الذي تعود إليه المسألة التي صدرت فيها الفتوى بالاجتهاد الجماعي و بالمجامع العلمية للفتوى التي تجمع علماء دين مع علماء اقتصاد مع علماء نفس و اجتماع مع أطباء من كل الاختصاصات مع علماء فلك و جيولوجيا و غيرها من العلوم الكثيرة و المتعددة نجدد الفكر الإسلامي و نجعله مواكبا لكل تطورات القرن الواحد و العشرين على كل الأصعدة و في كل الميادين .و أخير نقول إن المطلب الأول اليوم في الاجتهاد هو اجتهاد الفقهاء المعاصرين في الاجتهاد ذاته فتقليد المجتهدين القدامى اليوم لن يفيد ،كذلك لن يخلف العمل بمقولة ما أجازه السلف أقرة الخلف و ما أقرّه الخلف أجازه السلف إلا التخلف و الركود الحضاري و يجعل المنظومة التشريعية الإسلامية لا تواكب الأحداث و المستجدات فالمجتهد اليوم عليه العمل بمقولة بالإمكان أبدع مما كان و الأوائل تركوا للأواخر أشياء كثيرة لينظروا و يجتهدوا فيها منها تطوير المناهج التشريعية و العمل بفقه الواقع و بفقه الأولويات و بمقاصد الشريعة الإسلامية التي من أسسها المصلحة و الحرية و العدالة و الله سبحانه و تعالى في خاتم رسالته ألزمنا بالعمل في هذه المبادئ في مجال التشريع .إن وقوف بعض علماء المسلمين اليوم أمام كل عملية تحديث و تجديد في الفكر الإسلامي و في مناهج الاجتهاد لن يخلف إلا جمود الفكر الإسلامي و عدم مواكبته لقضايا العصر