تكامل العقل و النقل في إثبات حقيقة الغيب

 

العلاقة بين العقل و النقل مسألة قديمة جديدة و متجددة فقد انقسم المسلمون  الأوائل بعد وفاة الرسول محمد صلى الله عليه و سلم  كما سينقسم العالم الإسلامي بعد الخلافة الراشدة  بين مدرستين فكريتين  مدرسة العقل   و مدرسة النقل  و مرد هذا الانقسام هو قضية العلاقة بين الوحي و العقل  و بهذا الاختلاف  ستنشأ أقدم المعارك الفكرية في تاريخ الإسلام  تزامنت مع انفتاح المسلمين القدامى  على  حضارات  إنسانية داخل و خارج الجزيرة العربية و مع تبني الدولة العباسية المذهب الاعتزالي كمذهب رسمي لها  زاد الجدل الفكري و احتدم  النقاش حول مسألة العلاقة بين النقل- و يطلق عليه أيضا السمع - و العقل  إلى درجة الصدام الذي سيتسبب في هتك الأعراض و سفك الدماء و التهجير  و قطع الأرزاق . إن  أصحاب النقل المحافظين  تمسكوا بتقديم النص من قرآن و سنة على كل ما سواه  و قد وصل الأمر بالبعض إلى التقليل من شأن العقل  أما أنصار المذهب العقلي و في مقدمتهم المعتزلة فقد قدسوا العقل و قالوا بأنه يحكم على النص و النقل يقول القاضي عبد الجبار المعتزلي في كتابه شرح الأصول الخمسة : ( الشيء  يعقل ثم يحد ) و يعرف أبو الهذيل العلاف المعتزلي العقل بأنه: علم الاضطرار الذي يفرق به الإنسان  بين نفسه و الحمار و بين السماء و الأرض ...، و القوة على اكتساب العلم )  فالعقل لدى المعتزلة هو الأصل الذي تبنى عليه المعرفة  و لم يستثنوا من ذلك المباحث التي تتعلق بالله وجوده و صفاته سبحانه و تعالى كما يفسر القرآن و الأحاديث النبوية و غيرهما  في إطار قانون العقل.إن مدرسة العقل في الفكر و التاريخ الإسلامي لم تنكر مرجعية الوحي بل تنكر شمولية الوحي أي النقل في تقديم حلول لكل الوقائع و النوازل ماضيا و حاضرا و مستقبلا  فالوحي في مدرسة العقل يؤول عند مع الواقع و تعارضه مع ما تحكم به العقول و الفطرة السليمة . إن مدرسة النقل لم تنكر أهمية العقل الذي بدونه لن تثبت نبوة و معجزة و لا قرآن ،إن دور العقل عند أنصار مدرسة النقل هو إثبات صدق الوحي و استنباط و استخراج الأحكام الواردة في النص النقلي الذي لم يترك صغيرة و لا كبيرة في أمور الدين و الدنيا حاضرا       و مستقبلا  إلا بيّنها بطريق التوضيح و التصريح أو عن طريق التلميح و الإشارة فدور العقل عند أنصار النقل هو البحث عن الحلول للإنسان و الواقع الإنساني داخل الوحي المتلو و المروي . و لسائل أن يسأل عن العلاقة بين العقل و النقل بعيدا عن أولئك الذين اختزلوا المسألة في العقل مقابل النقل إن علاقة التكامل هي العلاقة التي ينبغي أن يتبناها كل مسلم فالعقل في الإسلام هو مناط التكليف بكل عقائد و فرائض الإسلام و تشريعاته          و المعجزة المحمدية هي عكس بقية المعجزات السماوية المادية التي سبقتها هي معجزة عقلية العقل هو الحكم في التصديق بها و في فهمها و استخراج حكمها و أحكامها ،العقل في الإسلام هو الذي يساند النقل لإدراك حقيقة الغيب و كنه بقية الحقائق الدينية التي بنيت على مراعاة مصالح الإنسان العاجلة و الآجلة  و التمييز بين المفسدة و المنفعة يقول أبو حامد الغزالي ( فلا غنى بالعقل عن السماع و لا غنى بالسماع عن العقل ) أما علي بن أبي طالب رضي الله عنه فيقول : ( العقل عقلان مطبوع و مسموع و لا ينفع مسموع إذ لم يك مطبوع ،كما لا ينفع ضوء الشمس و ضوء العين ممنوع ) .النقل في حاجة إلى العقل كذلك العقل في حاجة إلى النقل و هذا ما عبر عنه الإمام أبو حامد الغزالي في كتابه الاقتصاد في الاعتقاد تحت عنوان : في بيان وجوب التصديق بأمور ورد بها الشرع و قضى بجوازها فقال: ( إن ما لا يعلم بالضرورة ينقسم إلى ما يعلم بدليل العقل دون الشرع ،   و إلى ما يعلم بالشرع دون العقل ، و إلى ما يعلم بهما معا ) العقل ميزان صحيح و لكن لمحدوديته و لاعتماده على الحواس المحدودة و لتأثره برغبات الإنسان و شهواته الحيوانية هو في حاجة إلى الوحي كمصدر ثان تعديلي للمعرفة  . خلاصة القول أن العقل و النقل ليسا متقابلان بل هما متكاملان فالعقل بمفرده لا يستطيع تجاوز دائرة الوجود الطبيعي إلى ما وراء و ما بعد الطبيعة كما لا يستطيع العقل  الوصول إلى كل حقائق الوجود و منها تلك الأسئلة الوجودية الثلاث التي حيرت الإنسان منذ بدء الخليقة إلى اليوم و ملخص هذه الأسئلة: من أين؟ إلى أين ؟ و لماذا؟ المصدر و المصير و الهدف من الخلق و الاختبار .النص القرآني هو العمود الفقري و هو الأساس للثقافة و الفكر الإسلامي قديما و حديث و لكن مع الأيام و لدى بعض المسلمين حل التراث  محل النص الديني و بعبارة أخرى  قدّس البعض التراث البشري المنشأ و النسبي و المرتبط بالواقع التاريخي للمجتمعات الإسلامية و أصبغوا عليه قدسية كتلك القدسية التي هي للنص الديني قرآنا كان أو سنة صحيحة  و إلى يومنا هذا فإن مجموعات كبيرة من المسلمين هم أسرى التراث و يا ليته كان تراثا حافزا بل هو ثراث عبء كرّس التواكل و التخلف و معادة العلم و العلماء و تبرير الاستبداد و الرأي الواحد على حساب المبادئ و القيم الإسلامية الإنسانية التي أكّد عليه النص القرآني و في مقدمتها الحرية والعمل و العلم و كرامة و حرمة الإنسان.إن المسلمين اليوم مطالبون بتحرير النص قرآنا و سنة نبوية صحيحة من إكراهات التراث العبء لتعود للنص الديني فاعليته على النفوس و على علاقة المؤمن بالمجتمع الإنساني و بالكون.و النصوص الدينية اليوم في أمس الحاجة إلى  أن يعاد قراءتها و تفسيرها و تأويلها  و تسليط العقل عليها على ضوء مستجدات العصر و مصالح الإنسان المشروعة و المتطورة عبر العصور. ارتبط بعض النصوص الدينية بالسياق التاريخي الذي نزلت أو قيلت فيه لذلك ينبغي قراءة تلك الآيات و تلك الأحاديث قراءة سياقية و في ضوء الواقع و التاريخ و الملابسات و الحيثيات التي نزلت و قيلت فيها كما ينبغي قراءة واقع و تاريخ الفاعلين الاجتماعيين من سلطة سياسية و فقهاء و علماء أصول دين و مفسرين و محدثين و مدارس فكرية و كل من ساهم القراءة و التفسير و التأويل و التطويع  مع هؤلاء في إنتاج فكر و تراث و واقع  إسلامي ذا مرجعية نصية- القرآن و السنة- و أطلق عليه حضارة إسلامية أو تراث إسلامي أو فكر إسلامي أو تاريخ إسلامي اكتسب سلطته  من المجتمع المؤمن بالله و بالرسول محمد صلى الله عليه و سلم  و المقدس للوحي