الإنسان و الطبيعة
قال تعالى: قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة و ينفقوا مما رزقناهم سرّا و علانية من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه و لا خلال (31) الله الذي خلق السماوات و الأرض و أنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم و سخّر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره و سخّر لكم الأنهار ( 32) و سخّر لكم الشمس و القمر دائبين و سخّر لكم الليل و النهار(33) و آتاكم من كل ما سألتموه و إن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها إنّ الإنسان لظلوم كفار (34 ) – الآيات 31/34 من سورة إبراهيم. تقديم المقطع: اقتطفت هذه الآيات من سورة إبراهيم و هي سورة مكية ما عدا الآيتان 28 و 29 اللتان نزلتا بعد غزوة بدر.يبلغ عدد آيات سورة إبراهيم 52 آية و ترتيب سورة إبراهيم في المصحف الرابع عشر و هي بذلك تقع في الجزء الثالث عشرمن القرآن الكريم .نزلت سورة إبراهيم بعد نزول سورة نوح .سميت سورة إبراهيم بهذا الاسم لورود قصة إبراهيم أبو الأنبياء و باني البيت المحرم هو ابنه إسماعيل و الذي يرجع نسب الرسول محمد صلى الله عليه و سلم إليه فسورة إبراهيم تضمنت قصة إسكان سيدنا إبراهيم لزوجته السيدة هاجر و ابنه سيدنا إسماعيل بوادي ليس به زرع أو ماء عند البيت المحرم كما تحدثت السورة عن شكر سيدنا إبراهيم الله سبحانه و تعالى الذي أنعم عليه بنعمة الولد حيث رزقه تعالى سيدنا إسماعيل و سيدنا إسحاق.تفسير المقطع و تحليله: قال تعالى: قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة و ينفقوا مما رزقناهم سرّا و علانية من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه و لا خلال (31)قال تعالى: ( قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة ) من بلاغة القرآن و فصاحته أنه أمر بإقامة الصلاة و لم يأمر بمجرد أدائها بالقول ( صلوا) و نشير هنا أنه لم ترد أي آية في القرآن الكريم بلفظ ( صلوا ) أي بالأمر المجرد عن الإقامة و ورد فعل ليقيموا في صيغة المضارع مع تقدير لام الأمر دون صيغة فعل الأمر لأن المضارع كما يقول محمد الطاهر بن عاشور في تفسيره التحرير و التنوير ( دال على التجدّد فهو مع لام الأمر يلاقي حال المتلبس بالفعل الذي يؤمر به بخلاف صيغة افعل فإنّ أصللها طلب إيجاد الفعل المأمور به من لم يكن ملتبسا به فأصل يقيموا الصلاة ليقيموا الصلاة فحذفت لام الأمر تخفيفا ) و لما كان المؤمنون يقيمون الصلاة من قبل نزول هذه الآية كما كانوا يتصدقون أيضا ببعض أموالهم للفقراء و المساكين و من هنا نستنتج أن الأمر الوارد في هذه الآية هو حث للمؤمنين الاستزادة من إقامة الصلاة لتطهير النفوس و تقوية الشعور بالرقابة الإلهية و الرقابة الذاتية و للاستزادة من الإنفاق في سبيل الله بمد يد العون و المساعدة للمحتاجين من المسلمين و غير المسلمين تجسيدا للتضامن الإنساني و من معاني إقامة الصلاة أداؤها بأفعالها و ركوعها و سجودها و خشوعها الذي يعنى الخوف و الرجاء و الثقة و حسن الاعتقاد في الله و التفكير فيما يقرأ من آيات القرآن الكريم و المحافظة على أوقاتها إن لم يكن من أصحاب الأعذار. قال تعالى : ( و ينفقوا مما رزقناهم سرّا و علانية من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه و لا خلال ) قال جمهور العلماء السر ما خفي و العلانية ما ظهر و قيل إن السر التطوع و العلانية الفرض إذن بهذا المفهوم صدقة التطوع تكون سرّا أما الصدقة المفروضة و هي الزكاة فتكون علانية من مزايا الإنفاق في السر الإخلاص و عدم التفاخر و الرياء فالمؤمن يبغي به وجه الله ة تقوية الصلة به و كسب الثواب و من مزايا الإنفاق السر على المنفق عليه المحتاج عدم إشعاره بالدون و عدم إحراجه و الحفاظ على كرامته أما مزايا الانفاق الجهر فهي الاستجابة للأمر الإلهي و أداء ما أوجبه الله على عباده الأغنياء تجاه عباده الفقراء بغية توثيق العلاقات بين الناس عبر التضامن و التحابب بين كل طبقات المجتمع . قال تعالى : ( من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه و لا خلال ) أي قبل أن يأتي يوم القيامة و هو يوم الحساب على ما قدم الإنسان في دنياه من عمل سواء كان عملا صالحا أو عملا طالحا فيوم القيامة لا يمكن للإنسان استدراك ما فاته في دنياه بمعاوضة بيع و شراء و لا بهبة خليل و صديق فلكل امرئ يوم القيامة شأن يغنيه لذا على الإنسان أن يحاسب نفسه في الدنيا قبل أن يحاسب في الآخرة يوم لا ينفع خل خلّه و لا والد ولده و لا تنفع شفاعة قال تعالى في الآية 123 من سورة البقرة ( و اتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا و لا يقبل منها شفاعة و لا يؤخذ منها عدل و لا هم ينصرون ) .قال تعالى ( الله الذي خلق السماوات و الأرض و أنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم و سخّر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره و سخّر لكم الأنهار ( 32) و سخّر لكم الشمس و القمر دائبين و سخّر لكم الليل و النهار(33) و آتاكم من كل ما سألتموه و إن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها إنّ الإنسان لظلوم كفار (34 ) )بعد أن أمر الله عباده المؤمنين بإقامة الصلاة و بالصدقة الواجبة و التطوّع تنتقل بنا هذه الآيات القرآنية لبيان نعم الله على الإنسان و مظاهر التسخير و العلاقات بينها و مظاهر انتفاع الإنسان بهذه الظواهر الكونية المسخرة له من الله سبحانه و تعالى و من معاني التسخير التذليل و التطويع و هو مجاز في جعل الشيء قابلا لتصرّف غيره فيه . من نعم الله على الإنسان خلق السماوات و الأرض على اتساعهما و عظمتهما فالسماء جعلها الله سقفا محفوظا و الأرض فراشا و مسكنا و معاشا ،ينزل الله من السماء الماء فيخرج به أزواجا من نبات شتى ما بين ثمار و زروع مختلفة الألوان و الأشكال و المذاق و المنافع و الروائح كما سخر الله بسن قوانين تجعل الفلك تطفو على تيار الماء و تجرى عليه بمساعدة الرياح و جملة من القوانين الفيزيائية التي تحكم الكون و الإنسان و من معاني تسخير الفلك أيضا تسخير ذاتها بإلهام الإنسان المكرم و المشرف بالعقل لصنعها و شكلها بكيفية تجري في البحر دون مانع و دون أن تغرق و تغمرها المياه كما سخر الله الأنهار لتشق الأرض من بلد إلى آخر و تمنح الإنسان الماء للشرب و السقي و الاغتسال و غير ذلك من أنواع المنافع فتسخير الله الأنهار بأن جعلها على كيفية تقتضي انتقال الماء من مكان إلى مكان و قراره في بعض المخفضات فيستقي منه الحيوان و النبات و الإنسان .قال تعالى: (و آتاكم من كل ما سألتموه و إن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها إنّ الإنسان لظلوم كفار) .الإحصاء هو ضبط العدد و هو مشتق من الحصا اسما للعدد و هو منقول الحصى و هو صغار الحجارة لأن الناس قديما كانوا يعدوتن الأعداد الكثيرة بالحصى تجنبا للغلط و الخطأ .المؤمن لا يجحد كالكافر نعم الله عليه إذ نعم الله على الإنسان لا تحصى و لا تعد .معنى إن تعدوا أي إن تحاولوا العد و تشرعوا فيه و كما يقول المفسرون فإن جملة و إن تعدوا نعمة الله لا تحصوها تأكيد للتذييل و زيادة في التعميم تنبيها على أن ما آتاهم الله كثير منه معلوم و كثير منه لا يحيطون بعلمه أو لا يتذكرونه عند إرادة تعداد النعم .و قوله تعالى ( إن الإنسان لظلوم كفار) فالمراد بالإنسان ليس كل البشر بل صنف من الناس المتصفين بمضمون الجملة المؤكدة و تأكيدها في هذا الجزء من الآية الكريمة .كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول إذا رفعت المائدة و بعد الفراغ من الطعام : (اللهم لك الحمد غير مكفى و لا مودع و لا مستغنى عنه ربُنا ) رواه البخاري فالرسول في هذا الحديث يثنى على الله ثناء خالصا من كل رياء و معنى ( غير مكفى ) يقول شراح الحديث أن الضمير يعود إلى الله فيكون المعنى أنه الله سبحانه و تعالى هو المطعم لعباده و الكافي لهم عن غيره و و كل مخلوق في الكون لا يمكنه الاستغناء عن الله الخالق. أما معنى ( لا مودع ) أي غير متروك لأنه لا يستغنى عن الله الرزاق المطعم و معنى ( و لا مستغنى عنه) أي غير مطروح و لا معرض عنه بل محتاج إليه سبحانه و تعالى و هو الغني عن خلقه الفقراء إليه، و ربُنا بالرفع أي هو برُنا .و كان الإمام الشافعي يقول: الحمد لله الذي لا يؤدي شكر نعمة من نعمه ، إلا بنعمة توجب على مؤدي ماضي نعمه بأدائها نعمة حادثة توجب عليه شكره بها.