دلالات و أبعاد توحيد الله
ترتكز العقيدة الإسلامية على الإيمان بالله الواحد الأحد المتصف بكل صفات الكمال خالق الإنسان و الكون و كل ما فيه ما علمه الإنسان و ما لم يعلمه بعد قال تعالى في وصف نفسه ( يعلم خائنة الأعين و ما تخفي الصدور ) ( إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض و لا في السماء ) . قامت النظرة الإسلامية للكون و الحياة و الإنسان على نفس النظرة التي قامت على أساسها كل الرسالات السماوية من آدم إلى محمد خاتم الأنبياء و المرسلين : قال تعالى: ( و ما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ). في عقد التوحيد لم يخلق الإنسان عبثا بل خلق لهدف و غاية ألا و هي أداء وظيفة الاستخلاف قال تعالى : ( أفحسبتم أنّما خلقناكم عبثا و أنّكم إلينا لا ترجعون ) و قال أيضا ( أيحسب الإنسان أن يترك سدى) إن وظيفة الاستخلاف تقوم على اختبار الانسان الخليفة على عمله الحر سواء كان عملا صالحا أو عملا طالحا و الحساب المتمثل في الجزاء و العقاب فيكون حسب العمل في الدنيا كما في الآخرة و كل العقيدة و حقوق الله فالله وحده من يحاسب عباده عليها قال تعالى : ( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره و من يعمل مثقال ذرة شرا يره ).أقرت عقيدة التوحيد التنوع و الحق في الاختلاف في الرأي والمعتقد فالله خلق الناس مختلفين و منحهم حرية الاختيار بين الحسن و القبيح و الحرية تعنى المسؤولية و الالتزام،قال تعالى : ( و لو شاء ربّك لجعل النّاس أمّة واحدة و لا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك و لذلك خلقهم و تمّت كلمة ربك لأملأن جهنّم من الجِّنة و النّاس أجمعين ) هود 118/ 119 ، فليس من مشيئة الله سبحانه و تعالى أن يجعل كلّ البشر على هذه الأرض جماعة واحدة و على رأي أو ملّة أو مذهب أو دين واحد قال تعالى في سورة يونس الآية 99: ( و لو شاء ربّك لآمن من في الأرض كلّهم جميعا ) لقد بعث الله الرحمن الرحيم بعباده الأنبياء و الرسل للهداية و الإرشاد إلى طريح الصلاح و الفلاح في الدارين الدنيا ثم الآخرة قال تعالى في الآية 7 من سورة الزمر : ( و لا يرضى لعباده الكفر) . للعقل مكانته في عقيدة التوحيد فهو شرط التكليف و هو الأداة الوحيدة التي يدرك بواسطتها الإنسان المخلوق خالقة الله سبحانه و تعالى و الكثير من النصوص القرآنية تدعو الإنسان عموما و المؤمن خصوصا إلى إعمال عقله في نفسه وفي محيطه الاجتماعي و في تعامله مع الكون فبالعقل تؤسس العلوم الإنسانية و الاجتماعية و العلوم الطبيعية . حرّرت عقيدة التوحيد الإنسان المؤمن من سلطة الفكر الخرافي و الفكر اللاهوتي فعلاقة المسلم مع خالقه علاقة مباشرة دون وسيط فلا سلطة في عقيدة التوحيد لرجال الدين و لا للمتحدثين باسم الإسلام .إذا كانت عقيدة المؤمن بنيت عن وعي و فهم و تفكير مصحوبة بالجزم فسيكون لذلك أثر على نفسية و حياة المؤمن و على واقعه الكوني و الاجتماعي و الكثير من النصوص القرآنية بينت هذه الآثار فالمسلم يحسن لنفسه و لعائلته و جيرانه و للإنسانية و الكون و لذلك فلذلك هو لا يخاف و لا يحزن لا على دنياه و لا على آخرته قال تعالى: ( بلى من أسلم وجهه لله و هو محسن فله أجره عند ربه و لا خوف عليهم و لا هم يحزنون ) البقرة112 . عقيدة التوحيد تدفع المؤمن إلى العمل و الكد و الكدح فالمؤمن لا يتكاسل و لا يتواكل على الآخرين و لا يترهب و يتناسى دنياه لأجل آخرته قال تعالى : ( فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض و ابتغوا من فضل الله ) و المؤمن بعقيدة التوحيد هو حريص على حسن استغلال و استثمار الوقت فيما يعود عليه بالنفع و فيما يسهم في البناء الحضاري الإنساني الذي عبرت عنه الآيات القرآنية بتعمير الأرض و هي وظيفة الإنسان الخليفة و لذلك خلق و وجد على سطح الأرض و ما تسخير الله السماوات و الأرض للإنسان إلا للعمل و التعمير و الإبداع الحضاري على أساس من القيم و المبادئ الإنسانية قال تعالى : ( و سخّر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره و سخّر لكم الأنهار و سخر لكم الشمس و القمر دائبين و سخر لكم الليل و النهار ) .عقيدة التوحيد باعث نفسي داخلي للمؤمن لسلوك المسلك العملي المشروع و الخلقي الصحيح و هذا يجعله أبعد ما يكون عن اليأس و القنوط لقوله تعالى : ( إنّه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ) و قوله تعالى : ( و من يقنط من رحمة ربّه إلّا الضالون ) و لما جاء في الآية 5 من سورة الشرح ( فإنّ مع العسر يسرا ، إنّمع العسر يسرا ) . بما أن المؤمن موقن بأن الكون عبثا و لا صدفة بل هو من خلق الله الحكيم العليم القدير المبدع لذا فإن للكون سنن و قوانين يسير عليها و بما أن الله سبحانه و تعالى كرّم الإنسان بملكة العقل و بالحرية و القدرة على الفعل و خلقه في أحسن تقويم و جعل له الأرض مهادا و السماء بناء فما على الإنسان إلا التأمل و النظر و التفكير و التعقل لاكتشاف القوانين التي تحكمه و تحكم الكون و ما به من مخلوقات قال تعالى : ( ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور ) الملك 3 كما قال جلّ من قائل ( لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر و لا الليل سابق النهار و كلّ في فلك يسبحون ) سورة يس الآية 40الكون بكل ما فيه حسب عقيدة التوحيد يخضع لنظام غائي و ما على الإنسان إلا التأمل الدقيق في ظواهر الكونية و بمعرفة حقيقتها تزداد حرية الإنسان و سيادته في الكون و على المخلوقات و المؤمن مطالب بعد اكتشاف نواميس الكون استثمار الموارد الطبيعية للبناء الحضاري الإنساني دون تبذير أو استنزاف لها .ما نراه اليوم من ازدراء و تحقير بعض المسلمين للعلوم الطبيعية الكونية و التقنية و اقتصار اهتمامهم بالعلوم الشرعية دون سواها هذا الازدراء لا يمت للإسلام بصلة بل هو موقف مشوه و لا تقره التعاليم القرآنية المؤسسة لوحدة المعرفة و تكامل العلوم منذ أوّل آية قرآنية نزلت على الرسول محمد صلى الله عليه و سلم بغار حراء الداعية إلى القراءة ( إقرأ باسم ربك ) و خلاصة القول و صفوته أن لعقيدة التوحيد أثرا في توجيه سلوك الإنسان و تصرفاته لما في خيره و خير الإنسانيةو الكون كما تحميه من الزيغ و الانحراف عن مبادئ و قيم الاستخلاف التي أكد عليها القرآن الكريم كما تساهم عقيدة التوحيد في تحقيق التوازن النفسي للمؤمن و تجعل ظاهره كباطنه استجابة لقوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ) سورة الصف الآية 2-3