ختم النبوة و دلالاته
قال تعالى في الآية 40 من سورة الأحزاب :: ( ما محمد أبَا أحد من رجالكم و لكن رسول الله و خَاتَمَ النبيّين و كان الله بكل شيء عليما ).جاء في صحيح البخاري عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال: ( إنّ مثلي و مثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه و أجمله إلا موضع لبنة من زاوية ، فجعل النّاس يطوفون به،و يتعجبون له ،و يقولون : هلا وضعت هذه اللبنة ، قال : فأنا اللبنة ، و أنا خاتم النبيين ) و جاء في حديث رواه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة : ( فُضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم ، و نصلرت بالرعب ، و أحلت لي الغنائم ، و جعلت لي الأرض مسجدا و طهورا ، و أرسلت للناس كافة ،و خُتم بي النبيون ) .الخَتْمُ كما جاء في العديد من كتب اللغة : هو السَّدُّ على الإناء، و الغلق على الكتاب ، بطين و نحوهمع وضع علامة مرسومة في خاتَم ،ليمنع ذلك من فتح المختوم ،فإذا فُتِح علم صاحبه أنه فتح، لفساد يظهر في أثر النقش ، و قذ اتخذ الرسول محمد صلى الله عليه و سلم خاتما لذلك، و قد كانت العرب قديما تختم على قوارير الخمر ، ليصلحها انحباس الهواء عنها، و تسلم من الأقذار في مدّة تعتيقها و قال علماء اللغة أيضا أن معنى الخَتْمُ أن تجمع النحلُ من الشمع شيئا رقيقا، أرق من شمع القرص ،فتطليه به و الخُاتُم بفتح التاء الطين الموضوع على المكان المختوم و أطلق على القالب المنقوش فيه علامة أو كتاب .هذا ملخص قول علماء اللغة في تعريف الختم و الخاتم و الآن ننتقل إلى تعريف الختم اصطلاحا : قرئت عبارة ( خاتم النبيين) في الآية 40 من سورة الأحزاب بقراءتين القراءة الأولى و هي لعاصم بفتح التاء في كلمة ( خاتم) و بذلك يكون معنى الختم الطابع الذي تختم به الرسائل و يكون معنى قوله تعالى ( و خاتم النبيين) أن النبي محمد صلى الله عليه و سلم هو كالطابع بالنسبة إلى باب النبوة ختم به باب النبوة و أغلق فلا يفتح بعده أبدا.أما القراء الثانية لكلمة ( خاتم ) و هي لباقي الدواة ماعدا عاصم فهي بكسر التاء و بذلك يكون معنى الختم الطي يختم باب النبوة و النبي محمد صلى الله عليه و سلم هو ختم باب النبوة ..كانت الشرائع التي كلّف الله بها الإنسان في بداية مسيرة الاستخلاف شرائع بسيطة فنبي الله نوح عليه السلام دعا قومه إلى توحيد الله و عبادته عبر شعائر دينية مخصوصة و إلى التحلى بمجموعة من القيم الأخلاقية كدعوته إلى مجرد الاستغفار قال تعالى على لسان نوح عليه السلام في الآية 62 من سورة الأعراف ( أبلغكم رسالات ربي و أنصح لكم و أعلم من الله ما لا تعلمون ) بعد سيدنا نوح عليه السلام ازدادت الشرائعو التشريعات السماوية تعقيدا مع تطور و تعقد الواقع الإنساني متدرجة و مواكبة لتطور الوعي الإنساني و مواكبة لمصالح الإنسان و واقعه المتغير و لعل هذا ما يفسر التدرج و عدم نزول الشرائع دفعة واحدة في الرسالة المحمدية الخاتمة .إن ختم النبوة بالرسالة المحمدية ليس مجرد حدث تاريخي متمثل في توقف نزول الوحي الإلهي على البشر و توقف بعثة الأنبياء و الرسل بل هو في الحقيقة حدث معرفي يفصل بين حقبتين في مسيرة الإنسانية الطويلة و في تاريخ العقل الإنساني إذ بعد أن كان الإنسان لا يستطيع الاستغناء عن الأنبياء و الرسل و رسالاتهم ليستقيم المجتمع و يهتدي إلى الطريقة المثلى لأداء أمانة الاستخلاف و بناء الحضارة الإنسانية أصبح الإنسان مع مرحلة ختم النبوة قادرا على درجة من النضج العقلي الذي يؤهله للاعتماد على تجاربه ومعرفة المتراكمة عبر التاريخ للوجود و الطبيعة و ما تحويه من ظواهر و مخلوقات. يقول محمد إقبال : ( إن النبوة لتبلغ كمالها الأخير في إدراك الحاجة إلى إلغاء النبوة نفسها ) بهذا القول فإن الرسالة الخاتمة لا تختزل في النبوة فقط بل أيضا في الدور الذي ينبغي أن يلغبه العقل الإنساني في مرحلة ما بعد ختم النبوة عبر الاجتهاد سواء في النص الديني لجعله يواكب اللحظة التاريخية التي يعيشها الإنسان و يمر بها المجتمع الإنساني و عبر إعطاء العقل المكانة و التي يستحقها ليكتشف و يطرح الحلول و البدائل للتغلب على كل العوائق الطبيعية أو الاقتصادية أو الاجتماعية التي تعترض مسيرة الإنسان للبناء و الإبداع الحضاري .لقد كان الوحي و الأنبياء لقرون شركاء و رفقاء للعقل الإنساني للارتقاء بالوعي البشري إلى الدرجة التي تجعله قادرا على الاعتماد على قدراته الذاته لأداء وظيفة الاستخلاف المتوقفة على تعمير الأرض بالعمل الصالح و تجسيد المبادئ و القيم الإنسانية في الواقع الإنساني المعيش و ما نلاحظه في العديد من الكتابات حول ختم النبوة و ما نعيبه عليه هو اقتصارها على التأكيد على انقطاع الوحي و انتفاء بعث الأنبياء و الرسل بعد الرسول محمد صلى الله عليه و سلم كما يعاب عليهم عدم تجاوزهم الإشادة باكتمال الدين و الرسالة و تمام الهداية مع تركيزهم على فضل الرسالة المحمدية الخاتمة دون إشارة أحيانا أو بالمرور مر الكرام على دور العقل و مكانته في الرسالة الخاتمة و ما بعد ختم النبوة. قال تعالى في الآية 28 من سورة سبأ: ( و ما أرسلناك إلّا كافة للنّاس بشيرا و نذيرا و لكنّ أكثر النّاس لا يعلمون ) ففي هذه الآية يخاطب المولى سبحانه و تعالى رسوله محمد صلى الله عليه و سلم رسالته و دعوته هي لكل البشر على اختلاف ألوانهم و لغاتهم و بلدانهم فمن مقتضيات ختم النبوة عالمية الرسالة المحمدية الخاتمة فختم النبوة بهذا المفهوم إيذان بتقارب و وحدة إنسانية دون اعتبار لاختلاف الألسن و اللغات أو تنوع الأعراف و الثقافات قال تعالى في سورة الأعراف الآية 158 ( قل يا أيّها النّاس إنّي رسول الله إليكم جميعا ) و من مقتضيات ختم النبوة أيضا أن ينتقل الإعجاز من الإعجاز خارج النص المقدس و المتمثل لدى كل الأنبياء و الرسل الذين سبقوا محمد خاتم الرسل و الأنبياء في معجزات مادية حسية تشاهد بالأبصار و تنقرض بانقراض مشاهدتها إلى إعجاز داخل النص أي معجزة تشاهد بالبصيرة معجزة عقلية باقية و خالدة و هي القرآن الكريم فالنص المقدس مع الرسالة الخاتمة هو موضوع الإعجاز و لسائل أن يسأل كيف يكون القرآن حجة و معجزة على غير العرب الذين لا يحسنون و لا يعرفون اللغة العربية؟ الجواب هو أن القرآن معجز للناس أجمعين و لو لم يدركوا للعربي فصاحة ألفاظ القرآن و بلاغته أساليبه و حسن وقعه بما تضمنه من الحقائق الثابتة و المقاصد النبيلة و صدق تنبؤاته و إشاراته المتعددة إلى بعض الظواهر الكونية التي لم تكن قد اكتشفت زمن التنزيل و اليوم نرى دقة التعبير القرآني على تلك السن و القوانين الطبيعية الكونية .