النبوة و مقتضياتها
سنحاول في هذه الورقة البحثية تعريف النبوة و الرسالة و بعد ذلك سنعرف الوحي و نبين طرقه و صوره ثم ننتقل إلى بيان صفات الأنبياء و مقتضيات النبوة . النبوة لغة مشتقة من النبأ ، و هو الإخبار ، و هو أيضا بمعنى العلو و الارتفاع أو المكان المرتفع من الأرض و النبوة اصطلاحا: هي واسطة بين الخالق و المخلوق في تبليعغ وحيه ، و النبي سمي بذلك لأنه من أعلام الأرض التي يهتدى بها و النبي سمي بالنبي لأنه أرفع خلق الله . النبي اصطلاحا: هو من ينبئ بما أنبأه الله به و النبي أيضا هو منبئ بما أنبأه الله به .أما الرسول فأصل معناها اللغوي الإرسال و هو التوجيه فالرسول لغة هو من بعث و وجه برسالة و قد قال تعالى في هذا المعنى في ملكة سبأ في الآية 35 من سورة النمل ( و إنّي مرسلة إليهم بهديّة فناظرة بم يرجع المرسلون ) و اصطلاحا سمي الرسل عليهم السلام بهذا اللفظ و المصطلح لأنهم بعثوا من قبل الله تعالى برسالة إلهية حملوها و أموا بتبليغ تلك الرسالة لأقوامهم أو لكل البشر مع الرسالة الخاتمة قال تعالى في سورة المؤمنون الآية 44 ( ثمّ أرسلنا رسلنا تترى كلّ ما جاء أمة رسول كذبوه ) و فسّر الصحابي ابن عباس كلمة تترى في هذه الآية بمعنى يتبع بعضهم بعضا. و لسائل أن يسأل عن عدد الأنبياء و الرسل فلن نجد الإجابة عن هذا السؤال في الفرآن بالعدد المحدد فالقرآن لم يرد فيه إلا ذكر خمسة و عشرون نبيا و رسولا قال تعالى في هذا الشأن في الآية 78من سورة غافر : و لقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك و منهم من لم نقصص عليك ) و جاء في حديث رواه الإمام أحمد و انفرد به في مسند باقي مسند الأنصار: عن أبي ذر الغفاري قال قلت كم وفّى الله عدّة الأنبياء ؟قال( مائة ألف و أربعة و عشرون ألفا ،الرسل من ذلك ثلاث مائة و خمسة عشر جمّا غفيرا ) أما الفرق بين مصطلح النبي و مصطلح الرسول فهو أن النبي هو مبعوث الله سبحانه و تعالى إلى الناس ليدعوهم إلى شريعة نزلت على رسول قبله أما الرسول فهو من بلغه الله شريعة خاصة به و أمره تعالى بتبليغها للناس و قد قال العلماء عبارتهم المشهورة كل رسول نبي و ليس كل نبي رسول و استخدام القرآن الكريم لكلمتي النبي و الرسول دليل على أن لهما معنيين مختلفين و من ذلك العطف مثلا في قوله تعالى في سورالحج الآية 52 ( و ما أرسلنا من قبلك من رسول و لا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته) كما قال تعالى في سورة مريم الآية 51 ( و اذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا و كان رسولا نبيّا ) و خلاصة القول في الفرق بين مصطلح النبي و مصطلح الرسول أن النبي هو من لم يؤمر بتبليغ الرسالة أي تعاليم إلهية جديدة أوحيت إليه و الرسول هو من أمر بتبليغ رسالة أي تعاليم أنبئ و أخبر بها عن طريق صورة من صور الوحي و عرف الزمخشري الوحي لغة بقوله : وحى أوحى إليه ، و وحيت إليه ، إذا كلّمته عمّا تخفيه عن غيره ، و وحى وحيا: كتب .أما اصطلاحا فقد عرف الوحي ب : أن يُعلم الله سبحانه و تعالى من اصطفاه من عباده كلّ ما أراد إطلاعه عليه من ألوان الهداية و العلم و لكن بطريقة سرّية خفيّة غير معتادة للبشر . و ينزل الوحي بعدة طرق فمن صوره مكالمة بين العبد و خالقه كما كان مع كليم الله موسى عليه السلام قال تعالى : ( و كلّم الله موسى تكليما) الآية 164 من سورة النساء و من صور الوحي أيضا الإلهام الذي يقذفه الله في قلب من اصطفاه من أنبيائه و رسله على وجه العلم الضروري لا يستطيع له دفعا و لا يجد فيه شكّا و من صور الوحي و طرقه نذكر أيضا المنام الصادق يجئ هذا المنام في تحقّقه و وقوعه كما يجيء فلق الصبح في تبلّجه و سطوعه و من أشهر طرق الوحي الوحي بواسطة ملك الوحي جبريل عليه السلام و اعلم أن كل وحي القرآن الكريم على الرسول محمد صلى الله عليه و سلم هو بواسطة ملك الوحي جبريل عليه السلام و هذه الصورة من صور الوحي اصطلح عليها العلماء بالوحي الجلي. جاء في تفسير المنار لمحمد رشيد رضا الجزء 1 صفحة 184 : الوحي في اللغة : إعلام في خفاء .و وحي الله تعالى إلى أنبيائه علم يخصهم به من غير كسب منهم و لا تعلم من غيرهم،بل هو شيء يجدونه في أنفسهم من غير تفكر و لا استنباط مقترنا بعلم وجداني ضروري بأن الذي ألقاه في قلوبهم هو الرب القادر على كل شيء ، و قد يتمثل لهم فيلقنهم ذلك العلم ، و قد يكون بغير وساطة ملك ،قال تعالى: ( و إنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين ) فأي استحالة او بعد في هذا عند من يؤمن برب العالمين ، و علمه و حكمته و قدرته في المخلوقين؟ و عرفه شيخنا في رسالة التوحيد : بأنه عرفان يجده الشخص من نفسه مع اليقين بأنه من قبل الله تعالى بواسطة أو بغير واسطة ، و الأول بصوت يتمثل لسمعه أو بغير صوت. قال: و يفرق بينه و بين الإلهام بأن الإلهام وجدان تستيقنه النفس و تنساق إلى ما يطلب على غير شعور منها من أين أتى ، و هو أشبه بوجدان الجوع و العطش و الحزن و السرور ) .و إذا أردنا الحديث عن مقتضيات البنوة نقول أن جميع الأنبياء و الرسل كانوا بشرا قال تعالى في سورة الكهف الآية 110 : ( قل إنما أنا بشر مثلَكم ) كما كان كل الأنبياء و الرسل من الرجال قال تعالى في سورة النحل الآية 43: ( و ما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) كان جميع الأنبياء بشرا يأكلون و يشربون و ينامون و يعملون و يمرضون و يموتون كبقية بني جنسهم من اليشر قال تعالى في الآية 144 من سورة آل عمران : ( و ما محمد إلّا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ) كما قال تعالى في سورة الزمر الآية 30( إنّك ميت و إنّهم ميّتون ) من خلال ما سبق نتبيّن أن الأنبياء و الرسل لا يملكون من خصائص الربوبية و الألوهية شيئا و لا يملكون نفعا أو ضرا لأنفسهم أو لغيرهم إلا بإذن الله قال تعالى في سورة الأعراف الآية 188 : ( قل لا أملك لنفسي نفعا و لا ضرّا إلّا ما شاء الله و لو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير و ما مسّني السوء إن أنا إلا نذير و بشير لقوم يؤمنون ) و من مقتضيات النبوة أن يتكلم النبي أو الرسول بلسان قومه لفهم ما أوحي إليهم قال تعالى في سورة إبراهيم الآية 4 ( و ما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبيّن لهم ) و من خصائص النبوة أنها اصطفاء من الله سبحانه و تعالى فالله يختار لرسالته من يشاء من عباده فالنبوة منحة إلهية لا أثر لسعي الإنسان و كسبه إليها و بالتالي فالنبوة إلزامية غير كسبية قال تعالى ( الله يصطفي من الملائكة رسلا و من النّاس إن الله سميع بصير ) سورة الحج الآية 75 و العصمة أيضا هي من مقتضيات النبوة و قد عرفها القاضي عياض في شرح الشفاء بقوله :(لطف من الله تعالى يحمل النبي على فعل الخير و يزجره عن الشر مع بقاء الاختيار تحقيقا للإبتلاء ) قال تعالى في سورة المائدة الآية 67 ( يا أيّها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربّك و إن لم تفعل فما بلغت رسالته و الله يعصمك من النّاس إن الله لا يهدي القوم الكافرين ) فالرسل مكلفون بالتبليغ و الله سبحانه و تعالى يعصمهم من أن يضلوا في تبليغهم أو أن يخطئوا. و من مقتضيات النبوءة الصدق و الأمانة فمستحيل أن يبعث الله سبحانه و تعالى شخصا كذابا لتبليغ وحيه لعباده قال تعالى عن نبيه إبراهيم الخليل عليه السلام : ( و اذكر في الكتاب إبراهيم إنّه كان صديقا نبيئا ) و قد كان الرسول محمد صلى الله عليه و سلم يلقب قبل البعثة بالصادق الأمين و قد مدحه الله سبحانه و تعالى في القرآن الكريم بقوله: ( و إنّك لعى خلق عظيم ) قال تعالى في الرسول محمد أيضا: ( فبما رحمة من الله لنت لهم و لو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم و استغفر لهم و شاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين ) كما يتصف الأنبياء بالفطنة و الذكاء فهذه الصفة ضرورية ليكون الرسول قادرا على إقناع الناس بدعوته إلى الله قال تعالى في إبراهيم عليه السلام: ( ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربّه أن أتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي و يميت قال أنا أحيي و أميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر و الله لا يهدي القوم الظالمين ) و من مقتضيات النبوة أن الصفات و بعض الأمراض التي تضر برسالة و صورة النبي لدى قومه و لدى الناس فلا يمكن أن يصاب بها كالجذام و الأمراض المنفرة و ما يروى و يقال عن سيدنا أيوب عليه السلام أنه مرض بمرض منفر فهو غير صحيح و لم يثبت بل هو من الإسرائليات كما أن النبي لا يمكن أن يصاب بالجنون